مسؤول بين الميدان والاعلام

لا يُقاس المسؤول بكثرة ظهوره الإعلامي، ولا بزخرف القول، ولا بعدد شهاداته، المسؤول الحقيقي يُقاس بأثره، بما يتركه من إرث لا يحتاج من بعده أن يُعيد التأسيس، بل يُكمل البناء.
كم من مسؤول رحل وترك وراءه فوضى تنظيمية، ومشروعات منقوصة، وقرارات مرتجلة، ثم يأتي من بعده من يحمل طموحًا صادقًا، فيجد نفسه مكبلاً بتصحيح ما سبق، بدلًا من أن يتفرغ للابتكار والإنجاز، هكذا يتحول المنصب من أداة للتقدم، إلى عبء إداري، واستهلاك للطاقة في إصلاح ما لا يُصلح.
بل تتعدى آثار ذلك إلى خسائر مادية ضخمة، حيث تُهدر الميزانيات في إعادة دراسة المشاريع، أو معالجة أخطاء تنفيذية كان يمكن تفاديها منذ البداية، ويتسبب سوء الإدارة السابقة في تعطيل مصالح الناس، وبطء في وتيرة الإنجاز، واستهلاك وقت وجهد الأجهزة الحكومية في إعادة ضبط ما فُقد توازنه، وكل ذلك يُخصم من رصيد الدولة، ويؤخر خطواتها نحو التنمية المستدامة.
وفي مقابل هذا المشهد المربك، برزت نماذج استثنائية في الإدارة والقيادة، فالدكتور غازي القصيبي لم يكن مجرد وزير، بل حالة إدارية وأخلاقية متفرّدة، ترك وراءه بصمة حقيقية.
والدكتور توفيق الربيعة، حمل وزارة الصحة في ذروة الأزمات، فحوّلها من جهاز تقليدي إلى منظومة تواكب العالم، بخطط واضحة ونتائج ملموسة، لا وعود مؤجلة.
والمستشار تركي آل الشيخ، قدّم نموذجًا مختلفًا في صناعة الترفيه، حيث نقل القطاع من الهامش إلى صدارة الفعل الثقافي والاقتصادي، برؤية جريئة، وتنفيذ متقن، ومخرجات استثنائية، جعلت من الترفيه عنصرًا فاعلًا في الاقتصاد الوطني، وجاذبًا عالميًا.
نحب مسؤولًا دون غيره، لأننا لمسنا صدقه قبل قراراته، رأيناه ينزل إلى الميدان، لا يُدير من برج عاجي، لكن أيضًا، ليس كل من نزل الميدان أدرك ما فيه، فبعضهم حضر للكاميرات، لا للقرارات، تجوّل ولم يتفحّص، زار ولم يُراجع، صافح ولم يُحلّ، فالوجود وحده لا يكفي، إن لم يكن مقرونًا بفهم حقيقي، وقرارات تُترجم على الأرض، لا تبقى في دفاتر التصريحات.
المسؤول الحقيقي يُورّث من بعده طريقًا ممهّدًا، لا ألغامًا مؤجلة، يترك خلفه بيئة جاهزة للبناء، لا ساحة مليئة بالحفر والأخطاء، يُسهّل على من يخلفه المهمة بدلًا من أن يُعقّدها، ويُسهم بعمله في دفع عجلة الرؤية الوطنية إلى الأمام، لا في تعطيلها، يكون سندًا للوطن والمواطن، وعونًا لولاة الأمر، لا عبئًا يُثقل كاهلهم.